الاثنين، 26 ديسمبر 2016

بين رام الله وقلنديا

لقد حاول أبو مازن على مدى سنوات ولايته، بشكل كبير، تخليص الشعب الفلسطيني من السرد البطولي والسير به في مسار جدي للبناء والتغيير. وقد تعلم هذا الأمر من فلسفة فرانس فانون، وهو فيلسوف سياسي وعضو في حركة التحرير الجزائرية، والذي شكل مصدر إلهام لزعماء حركة فتح في بداية طريقهم.
62% من الفلسطينيين لا يثقون بتصريحات أبي مازن في موضوع اتفاقيات أوسلو
62% من الفلسطينيين لا يثقون بتصريحات أبي مازن في موضوع اتفاقيات أوسلو
تشكل انتفاضتا عام 1987 وعام 2000 مَعلَمَيْن بارزَيْن في تطوّر حركة فتح. فنشطاء الميدان الذين حملوا على كاهلهم عبء النضال الجماهيري والمسلّح أعلنوا عن تحدّيهم للنخبة السياسية، التي كانت في تونس ودخلت في وقت لاحق إلى مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة. وهم أرادوا منها أن تعيد دراسة أساليب النضال للتحرير والسير باتجاه إقامة دولة فلسطينية مستقلّة. وعملياً، لم يتحقق هذا الأمر. وذلك لجملة من الأسباب من بينها أن القيادة التي وقفت على رأس الثورة المسلحة قد شاخت، وضربها الفساد، واختارت لنفسها الانعزال في رام الله المحصّنة، بعيداً عن مخيّمات اللاجئيين وعن مدينتي جنين ونابلس، معقلي الكفاح المسلح.


ويتضح من تحليل الخطاب الفلسطيني الجماهيري والإعلامي أن كلّاً من المكان الذي عُقد فيه المؤتمر الأخير لحركة فتح وتركيبة المشاركين فيه وهوية الأعضاء الذين جرى انتخابهم للجنة المركزية بالإضافة لخطاب أبو مازن، يشير بدرجة كبيرة إلى خط الحدود الواضح الممدود بين الجيل الكبير والجيل الشاب، وبين السكان المحليين وبين جماعة الخارج العائدين (من تونس)، وبين النخبة المدنية (من مدينة) المتخمة في رام الله المؤيدة للتنسيق الأمني مع إسرائيل حتى لا تُعرّض موقعها الاقتصادي للخطر وبين سكان القرى وسكان مخيّمات اللاجئيين والذين بالكاد ينهون شهرهم ويتطلعون إلى تغيير الوضع الراهن – سواء كان ذلك عبر الطريق السياسي أو عن طريق العودة للكفاح المسلح.


وفي موازاة انعقاد مؤتمر فتح في رام الله في قاعة حملت اسم أحمد الشقيري، أوّل رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، عقدت جماعة من نشطاء حركة فتح المهمشين اجتماعاً لها في مخيّم اللاجئيين قلنديا، وذلك بهدف تبادل الآراء في ما يتعلق بمواصلة طريقهم والبحث في عقد مؤتمر في مصر وإقامة جناح جديد يطلق عليه اسم "فتح الياسر". والمكانان اللذان عقد فيهما هذان المؤتمران لم يكونا بالصدفة، فمدينة رام الله هي مركز القوة للعائدين من تونس، ومخيم اللاجئين قلنديا هو مركز قوّة الفلسطينيين المحليين. وبذلك اختار أن يبرز العائدون من تونس أنفسهم بوصفهم متمّمي درب الشقيري، بينما اختار السكان المحليّون أن يبرزوا خروج هؤلاء عن طريق آباء الكفاح المسلح لتحرير فلسطين.   


وفي الوقت الذي اضطر فيه قسم كبير من قدامى حركة فتح، الذين شاركوا في المؤتمر الذي انعقد في عام 2009، إخلاء أماكنهم في اللجنة المركزية لصالح الجيل الأكثر شباباً، نجد أن المشاركين في المؤتمر الذي انعقد هذا الشهر، المحسوبين على النخبة السياسية والأمنية والاقتصادية في الضفة الغربية، قد ثبّتوا أبو مازن في موقع رئاسة الحركة وضمنوا الأغلبية في اللجنة المركزية للعائدين من تونس، وهم من أبناء الستين وما فوق، والذين يسكنون اليوم في مدن الضفة.


وكان انتخاب أبناء الجيل الشاب قبل سبع سنوات قد أشار إلى الرغبة في التحرّر من الجيل القديم، الذي كان يُنظر إليه على أنه فاسد، وبوصفه المسؤول عن فشل المسيرة السياسية مع إسرائيل. إلا أن أعضاء اللجنة المركزية الحالية عملوا بـ "اسم الأب". وتدل صور الأعضاء المنتخَبين على أن الجيل السابق بقي على حاله، وهو يمسك بالموارد التنظيمية والاقتصادية ويطلب من أبنائه الطاعة الكاملة وانتخاب الزعيم بالتصفيق وليس، لا سمح الله، من خلال عملية ديمقراطية وبالتصويت السرّي.


لقد جاء انتخاب مروان البرغوثي وجبريل الرّجوب، وهما من مواليد الخمسينيات، للمكانين الأوّلَيْن في اللجنة المركزية لحركة فتح، على ما يبدو لإرضاء الجيل الأصغر ودق إسفين بينه وبين معسكر محمد دحلان، خصم أبو مازن. وكان ثمن هذا الخيار قليلاً نسبيّاً وذلك لأن "الشابّيْن" لا يمتلكان صلاحيات سياسية ولا يشكلان تهديداً على المدى القريب. فالبرغوثي موجود في السجن الإسرائيلي، بينما تم إقصاء الرّجوب من ميدان السياسة إلى ميدان كرة القدم. 


كما أن زعامة حركة حماس المقيمة في الخارج (خالد مشعل) قد أرسلت برسالة مؤسساتية وذلك عندما اختارت أحمد الحاج علي لإلقاء كلمة مشعل في مؤتمر فتح. والحاج علي، من مواليد 1941، هو ممثل حماس في المجلس التشريعي ويُعتبر شيخ المطلوبين والأسرى الفلسطينيين. ومشعل، البالغ من العمر 60 عاماً، وضع يده بيد أبو مازن ابن الـ 81، انطلاقاً من المصلحة المشتركة للوقوف في وجه الكتائب والمليشيات المسلحة التي تتحدى الزعامة الأكبر سناً.


ومع ذلك، وإلى جانب الإبقاء على هيمنة النهج الأبوي المشترك، استغلّ مشعل المؤتمر من أجل وضع حركة فتح في مواجهة ماضيها كرائدة للنضال لتحرير فلسطين لإرغامها على وضع برنامج مشترك بين فتح وحماس للنضال السياسي. وأراد مشعل عرض نفسه بوصفه زعيماً وطنياً ومسؤولاً يعمل من أجل الوحدة الوطنية التي ستقوي الاستقلالية الفلسطينية مقابل الساحة العربية. وبذلك نقل الكرة إلى ملعب فتح، على أمل أن يصب ترددها (فتح) لصالح حماس في عيون الجمهور الفلسطيني. 


لقد نُظر إلى خطاب أبو مازن، في الخطاب الفلسطيني العام وفي وسائل الإعلام، على أنه خطاب رأس دولة لا خطاب زعيم حركة وطنية ثورية. وقد اقتبس أبو مازن نفس الآيات القرآنية التي اعتاد عرفات على تردادها، والتي تظهر فيها الكلمات المشتقة من الجذر الثلاثي ف – ت – ح، ولكن لغاية مختلفة. ففي الوقت الذي كان فيه عرفات يستخدم فيه هذه الآيات من أجل الرّد بقوة على حركة حماس ولتقديم مقاتلي حركة فتح بوصفهم أبطال وطنيين يقتفون أثر المقاتلين من عصر النبي محمد، فإن أبو مازن يستخدمها (الآيات) في محاولة لتحجيم المعارضة التي نشأت ضده من داخل حركته (محمد دحلان)، وهو يُظهر إيماناً مطلقاً بالله بأنه سيحق الحق ويَهَب النصر له وللحركة.  


لقد تحدث أبو مازن في خطابه حول المبادئ الأساسية للدولة (الفصل بين السلطات وسلطة الحكم الواحدة والجيش الواحد والانتخابات للرئاسة وللمجلس الوطني الفلسطيني بمشاركة كافة الفصائل) وأرسل تحذيراً واضحاً بأنه "سيقطع يد كل من يتجرأ على السعي لإسقاط أسس الدولة". وهو لم يذكر انتفاضة الأقصى المسلحة، التي أضرت بصورة الشعب الفلسطيني، واختار الحديث عن انتفاضة 1987، "انتفاضة الحجارة" أو "انتفاضة الأطفال"، بوصفها تمثّل النضال المشروع الذي قاد إلى اتفاقات أوسلو ولعودة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من المنفى إلى الأراضي الفلسطينية. وأعاد رئيس السلطة الفلسطينية تذكير المشاركين في المؤتمر، والمتابعين أيضاً، بأن محاولات مواطني الدول العربية لإسقاط الأنظمة الاستبدادية قد آلت إلى الفشل، وأن "الربيع العربي" لم يُفضِ إلى الديمقراطية والحرية بل إلى حروب أهلية دامية وإلى إلحاق الضرر بالأماكن الأكثر قدسية للمسلمين – مكّة والمدينة (في أعقاب إطلاق الصواريخ من اليمن إلى المملكة العربية السعودية).


الرسالة كانت واضحة: لقد انتهت أيام الكفاح المسلّح من الداخل ومن الخارج. وهذا هو زمن المقاومة الشعبية والحل السياسي (المبادرة العربية ومبادرة بوتين والمبادرة الفرنسية). فقط على هذا النحو يمكن اقناع المجتمع الدولي بأن الفلسطينيين يستحقون دولة مستقلة تقوم إلى جانب دولة إسرائيل. وقد كانت أقوال أبي مازن مثل طلبه من بريطانيا الاعتذار عن إعطاء أرض فلسطين لشعب آخر (وعد بلفور)، وكذلك إشادته بقرارات اليونيسكو للحفاظ على الإرث الإنساني في القدس الشرقية، هذه الأقوال كانت، إلى درجة كبيرة، "ضريبة كلامية" كان لابد له من أن يدفعها حتى يحظى بتأييد الشعب الفلسطيني لمساره السياسي.   


لقد تم تخصيص جزء كبير من خطاب أبو مازن من أجل عرض انجازات السلطة الفلسطينية في مختلف المجالات، إلا أنه لا يمكن تجاهل الأصوات، وكذلك استطلاعات الرأي العام، التي كانت تتردد خارج قاعة المؤتمر والتي تركت انطباعاً كبيراً بأن خطاب الرئيس كان ضعيفاً ومنقطعاً عن المحيط من حوله. وقد جاء في استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي أن 62% من الفلسطينيين لا يثقون بتصريحات أبي مازن في موضوع اتفاقيات أوسلو، وأن 45% يعتقدون أن الوضع في الضفة الغربية سيء، و56% لا يشعرون بالأمن الشخصي، و79% يعتقدون أن السلطة الفلسطينية هي كيان سياسي فاسد، وحوالي 60% غير راضين عن أداء أبو مازن كرئيس للسلطة الفلسطينية ويريدون استقالته.


كما أن المراسلين الميدانيين لمختلف القنوات الإعلامية الفلسطينية والعربية والدولية، قد عرضوا مشاعر الغضب الشديد من الانقسام والتهميش بين أوساط نشطاء حركة فتح في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك مشاعر اليأس في الشارع الفلسطيني. وقد حظي المؤتمر بألقاب مشينة مختلفة مثل "حفلة رام الله" و"مؤتمر التهميش" و"مؤتمر مقاطعة عباس". وقد أعرب بعض الذين أجريت المقابلات معهم وسئلوا عن توقعاتهم من المؤتمر، أعربوا عن رغبتهم "بعودة الحركة إلى الستينيات والسبعينيات" وأن "تُضَخ دماء جديدة وشابة" و"ألا يعتقدوا أن فلسطين هي لهم فقط، وألا يعملوا فقط من أجل مصالحهم الشخصية". كما أعربوا عن عدم إيمانهم العميق بأن السلطة الفلسطينية ستهتم بالمصالح الوطنية بدلاً من مصالح النخبة الحاكمة.   


لقد حاول أبو مازن على مدى سنوات ولايته، بشكل كبير، تخليص الشعب الفلسطيني من السرد البطولي والسير به في مسار جدي للبناء والتغيير. وقد تعلم هذا الأمر من فلسفة فرانس فانون، وهو فيلسوف سياسي وعضو في حركة التحرير الجزائرية، والذي شكل مصدر إلهام لزعماء حركة فتح في بداية طريقهم. إلا أن فانون كان قد اقترح على الزعماء كذلك الحفاظ على علاقتهم بالجماهير وعدم الانخراط في القمع والممارسات السياسية التي من شأنها أن تزيد من مشاعر الإحباط في أوساط الجماهير. وخطاب أبو مازن حول حق الشعوب في تقرير المصير، والكرامة والخبز، ظل خطاباً مجرداً وعقيماً في واقع تعيش فيه المقاطعة منقطعة عن سكان الأرياف مخيمات اللاجئين. ويجب التذكير هنا أن كلمة "مقاطعة" في العربية تضم معاني الحرمان والقطيعة.  

ترجمة: مرعي حطيني 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق